بحث 1

يتم إضافة التقرير هنا

في اعتقادي أن أحد الأسباب الكبرى التي حالت دون فهم الطائفية وتجنب آثارها هو اختلاط مفهوم الطائفية نفسه وعدم ضبطه، مما أساء أيضًا إلى فهمنا لها كظاهرة اجتماعية وسياسية وبناء تعريف واضح وصحيح لها أيضًا. فقد مال معظم الذين أثاروا مسألتها، في الأدبيات العربية القومية المعاصرة، إلى الخلط بشكل كبير بين التعددية الدينية، أي انطواء المجتمع على تنوع ديني كبير، يتسم إلى حد أو آخر من الانسجام أو الصراع، وسيطرة إحدى هذه الفرق أو الجماعات الدينية على مقاليد الأمور في السلطة أو على مواقع رئيسية منها في سبيل تأمين منافع استثنائية وخاصة لا يسمح بها القانون. أي يخلطون، إذا شئنا التبسيط قليلاً، بين الطائفية في المجتمع والطائفية في الدولة، وهما من طبيعتين مختلفتين تمامًا وليس لهما النتائج ذاتها. الأول يتعلق بطريقة اشتغال المجتمع والثاني بطريقة اشتغال الدولة الحديثة، ولا قيمة له إلا من منظور بناء هذه الدولة.

ومصدر الخلط النظري هذا نابع من أن الفكرة القومية التي انتقلت إلى الثقافة العربية من الأدبيات الغربية ذات الصبغة الأحادية، ارتبطت بقوة بفكرة التجانس الاجتماعي. ونظر القوميون العرب، كغيرهم في العالم، إلى التعددية الدينية والإتنية في المجتمع كعقبة أمام نشوء وعي قومي يتجاوز الطوائف والانتماءات الدينية الفرعية. بل اعتقدوا أن استمرار عصبيات أو انتماءات جماعية فرعية لا بد أن يغذي ولاءات غير وطنية، من داخل الدولة وخارجها، وبالتالي يضعف سيطرة الدولة على إقليمها وسكانها ويعرضها لتدخل القوى الأجنبية[1]. لكن ليس هناك أي شك في أن استمرار الولاءات الطائفية، الدينية والأقوامية معًا، في المجتمعات الوطنية، ثم نموها في مرحلة تالية إلى درجة وضعت فيها الوطنية نفسها في أزمة، يعكس المسار الذي اتخذه تشكُّل النخبة الوطنية الحديثة والصعوبات التي حالت دون تطور النسيج الوطني نفسه. وفي مقدمة ذلك ضآلة الموارد المادية واللامادية التي توفرت لهذه النخبة، وبشكل خاص غياب طبقة اجتماعية متماسكة حديثة، واضطرارها إلى الاعتماد، بشكل مباشر أو غير مباشر، في إعادة إنتاج نفسها وشروط وجودها وسيطرتها الاجتماعية، على عوامل خارجية وغالبًا على الدولة نفسها. وبسبب هذا الضعف البنيوي، الذي نجم عن تعثر عملية التحديث، أو غياب الشروط المادية والجيوسياسية له، وجدت العديد من النخب الاجتماعية الصاعدة والمعزولة، فرصًا أكثر لتوفير الموارد البشرية والسياسية والأيديولوجية التي تحتاجها تعزز موقفها في التنافس على السلطة عبر الالتصاق بالجماعات الفرعية المنتمية لها مما كانت ستجده من تماهيها مع الجماعة الوطنية العامة التي لم تكن قد تكونت بعد، وربما لم تتكون حتى الآن، من حيث هي جماعة واعية لوحدتها السياسية ولإرادتها المشتركة في العمل والانجاز ومستبطنة لقانون الوطنية، أي لمفهوم الدولة من حيث هي دولة القانون، التي هي أساس وجودها.

ومن هنا دافعت في كتابي نظام الطائفية، من الدولة إلى القبيلة[2] عن أطروحة تقول بأن الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقًا موازية، أي سوداء للسياسة، أكثر مما تعكس إرادة تعميم قيم أو مباديء أو مذاهب دينية لجماعة خاصة. وتتضمن هذه النظرية أربع فرضيات رئيسية:

–       الأولى أن الطائفية لا علاقة لها في الواقع بتعدد الطوائف أو الديانات. فمن الممكن تمامًا أن يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية أو الإتنية من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء دولة طائفية أو سيطرة الطائفية في الدولة، بمعنى استخدام الولاء الطائفي للالتفاف على قانون المساواة وتكافؤ الفرص الذي يشكل قاعدة الرابطة الوطنية الأولى، وبالتالي لتقديم هذا الولاء على الولاء للدولة والقانون الذي تمثله.

–       والفرضية الثانية أن الطائفية لا توجد في المجتمعات التقليدية ما قبل الحديثة التي تفتقر لفكرة السياسة الوطنية والدولة الحديثة ولا تقوم إلا عبر سيطرة عصبية قبلية أو دينية رئيسية، تشكل قاعدة السلطة المركزية وضمان وحدتها واستمرارها، وبالعكس لا يصبح استخدام الولاءات الجزئية داخل الدولة خروجًا عن القاعدة والقانون إلا مع نشوء الدولة الحديثة التي تقوم على مبدأ العقد الاجتماعي بين أفراد أحرار ومستقلين تجمعهم مباديء مشتركة، ولا يحقق وحدتهم السياسية (الوطنية) إلا التزامهم جميعًا بها ووضعها فوق انتماءاتهم الخاصة على مستوى العلاقة الكلية، أي في علاقتهم مع أفراد الجماعات الأخرى. ولأنها سياسة مرتبطة باختيار عام، وليست مفروضة بقوة الاستيلاء والعصبية والشوكة، كما كان عليه الحال في الدولة القديمة، فالسياسة الوطنية تدور من حول الرأي العام، أي الرأي الذي يشكل خلاصة رأي الأفراد وليس الجماعات، والذي يتبلور في ما يشبه السوق السياسية، أي في التنافس بين النخب السياسية، ذات البرامج المتعددة والمتباينة والمتناقضة أحيانًا، التي تعكس مصالح متباينة أيضًا، على كسب تأييد الأفراد ونيل ثقتهم ببرامجها السياسية وبالتالي ضمان التصويت لها أو تأييدها في مواقفها. وكل تكتل داخل الفضاء السياسي الوطني، وداخل الدولة ومؤسساتها بشكل خاص، على أساس الولاءات العصبية، الدينية أو الأقوامية، على حساب الولاء الوطني القائم على الاختيار بين سياسات تعنى جميعها بالشأن العام وليس بالمصالح الخاصة، يخرب آلية عمل هذه السوق. ومن هنا يعتبر استخدام التضامن الطائفي أو الإتني داخل الدولة، خروجًا عن قانون الوطنية، أي عن العقد المفترض أنه قائم بين مواطنين أفراد، أو يقبلون بأن يكونوا على مستوى العلاقة في ما بينهم، خارج دائرة مصالحهم الخاصة، المجتمعية، مواطنين أفراد يستخدمون وسائل السياسة للتعبير عن آرائهم ومواقفهم. وهو ما يشكل مصدرًا لفساد السياسة الوطنية أيضًا. ذلك أن الأغلبية المنبثقة عن انتخابات تخترقها التكتلات غير السياسية والولاءات الدينية والإتنية لا يمكن أن تعبر عن أغلبية اجتماعية ولا يمكن أن تضع نفسها، والسلطة العمومية التي تسقط بين يديها، في خدمة الجماعة الوطنية العمومية أيضًا. فهي لا تحقق انتصارها على أساس معايير سياسية، أي نابعة من نوعية البرامج التي تقترحها على الشعب ككل وتطلب موافقته عليها، والتي ترتبط بتحقيق مصالح مشروعة، حتى لو كانت تخدم طبقة معينة، ولكن على أساس معايير غير سياسية، تتنافى وإعادة إنتاج الجماعة الوطنية كجماعة موحدة، أي سياسية، وهي شرط وجود الجماعة السياسية أو الأمة كعلاقة متميزة عن علاقة القبيلة والدين، ومن ورائها الدولة التي تكرس وجودها وتضمن استمراره. وكما هو الحال في السوق التجارية، تطرد العملة الفاسدة، التي هي الولاءات غير السياسية، العملة السليمة التي هي الولاءات الوطنية الجامعة التي تقبل الانقسام الأفقي من حول تحديد المصالح الاجتماعية والصراع عليه، ولا تقبل النزاع العامودي الذي يعني خراب الأمة أو الجماعة السياسية والعودة إلى أولوية العصبية الدينية أو الأقوامية. وبالعكس، إن قيام السياسة بالأساس على مبدأ الغلبة، وهو ما كان سائدًا قبل نشوء الدولة الحديثة، حتى لو احتاجت هذه الغلبة على تأييد ديني أو رمزي، وغياب مفهوم التنافس على السلطة بطرق سلمية، وفي سياقه أهمية الرأي العام في هذه العملية، لا يجعل من الطبيعي أن يتحقق تداول السلطة عن طريق القوة، ولكنه يجعل صاحب هذه القوة أو الفريق الذي يوفرها هو الأجدر والأكثر شرعية في استلامها بقدر ما يضمن استقرارًا أطول ويوفر على المجتمعات النزاعات الدموية الخطيرة التي ترافق انتقال السلطة. ولا يمكن توفير القوة الضاربة من دون العصبية كما لاحظ ابن خلدون، منظر الدولة الأكبر في القرون الوسطى العربية والإسلامية. ولذلك فإن الحكم لا ينفصل هنا عن سيطرة عصبية حاكمة وفرض قانونها وسيادتها على كامل المجتمع، أي على العصبيات الأخرى.

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on telegram
Share on email
Share on print